فلسفة الفن التجريدي الإسلامي

من الثابت أن الفكر التصميمي _وبأجزاء عديدة منه_ هو فكر قائم على النظرية التجريدية والابتكار الحر للأشكال. من هنا تأتي أهمية وتأثير فن التجريد الإسلامي في بناء الفكر والرؤية التصميمية لدى الفنان سواء الحر (رسام / مصور) أو التطبيقي (مصمم جرافيك / رسام توضيحي).
وإن أدركنا فعلا هذه الأهمية وأثرها الفعال في التطور الفني فنحن بحاجة إذن للإلمام ببعض النقاط المبسطة حول الخصائص والصفات العامة التي تعطي الفن الإسلامي طابعه وخصوصيته.

للفنون الإسلامية عدة فروع وتشعبات.. ولها أيضا خصائص مشتركة شملتها عبر كل الحقب، وخصائص أخرى تفصيلية استقلت فيها كل حقبة (زمنية أو جغرافية) عن الأخرى.
وقد حاولت تلخيص 7 نقاط أساسية تعد من أهم الخصائص العامة لهذا الفن (ضمن فرعه التجريدي تحديدا):

1- تطويع الخط العربي:

وهو أمر فريد ومتميز تم اللجوء إليه حيث تم تطويع الخط العربي المرن القابل للتشكيل واستخدامه كوحدة زخرفية تجميلية، وابتكار لوحات وتحف بهية غاية في الجمال والإتقان معتمدة عليه.

المسجد الأزرق _ اسطنبول Photography by Mohammad Hamwi

المسجد الأزرق _ اسطنبول Photography by Mohammad Hamwi

2- التجريد الزخرفي:

التجريد: هو تخليص الأشكال المعتادة من معانيها وتحويلها إلى أشكال أخرى مجردة بلا دلالة معنوية واضحة.. فيتحرر الشكل من المضمون المعنوي ويصبح شكل العمل الفني هو نفسه مضمونه.
وهي خاصية مهمة ومتفردة.. حيث نرى الفن الإسلامي يميل نحو التعبير التجريدي باستخدام الأنماط الزخرفية المختلفة. وقد تم ابتكار المئات من الوحدات الزخرفية والأنماط الجديدة التي تفرد أو تمزج بين أنواع الزخرفة النباتية والهندسية والحيوانية والخطية، فخرجت من النمط الإغريقي التقليدي الذي يعنى بتقليد وتصوير الجسم البشري والمخلوقات الحية بشكلها المثالي واتجهت نحو عالم جديد من التشكيل الحر.. وهو ما جعل هذا الفن يبتعد عن كونه فنا دعويا.. ويصبح فنا بصريا صرفا.

سقف الأموي _ دمشق Photography by Mohammad Hamwi

3- الابتعاد عن التجسيم:

معظم الزخارف الموجودة في الفنون الإسلامية هي زخارف مسطحة.. ربما تكون نافرة بعض الشيء أو غائرة (محفورة).. لكننا لا نجد أثرا للأشكال المجسمة أو التماثيل ثلاثية البعد في الفن الإسلامي عامة.

4- التكرار أو الإيقاع المنتظم:

تتكاثر في أعمال الفن الإسلامي الوحدات الزخرفية المتنوعة، وتتكرر بإيقاع منتظم رياضي مذهل عبر المساحات لتخلق نوعا من التواتر الحركي ولتجعل العين تتبعها باستمتاع كي تصل غالبا إلى عبارة خطية، أو إلى نافذة زجاجية ملونة مفعمة بالنور، أو إلى قبة واسعة تشير نحو السماء.
حيث يشعر المرء في النهاية أن الكتلة المزخرفة بأكملها عبارة عن وحدات منتظمة تشبه النجوم أو البشر، اجتمعت واتجهت بكليتها نحو الأعلى.

يت السحيمي _ القاهرة Photography by: Mohammad Hamwi

يت السحيمي _ القاهرة Photography by: Mohammad Hamwi

5- تحويل الخامات الرخيصة المتوفرة إلى تحف فنية حقيقية:

فمعظم البناء والأدوات الذي تم الاعتماد عليه في هذا الفن لم يكن فيه استخدام لمجوهرات أو أحجار ثمينة من أجل إضفاء الروعة والبهاء _خاصة في المراحل الأولى لا مراحل الثراء والتنافس_ وبدلا من ذلك تم تطوير الصنعة الدقيقة والتزيين الحرفي المدهش الذي حول الطين البني إلى لوحات رائعة مزخرفة، وحول الحجر العادي إلى ألوان مزينة ملفتة للنظر، وحول الرمل البسيط إلى زجاج معشق ملون يسرّ الناظرين.

المسجد الأموي _ دمشق Photography by: Mohammad Hamwi

المسجد الأموي _ دمشق Photography by: Mohammad Hamwi

6- محاولة ملء الفراغ:

أي الميل الدائم إلى ملء الفراغات بالوحدات الزخرفية. وهي خاصية تم تعميمها على الفن الإسلامي، وقد وجدنا أنها متفاوتة حسب العصور وليست سمة موحدة بين جميع الأنماط. إذ لن تجد هذا الأمر جليا في بعض مساجد العصور الأولى مثلا، بينما تجده حاضرا وبثقل في الكثير من المساجد المتأخرة في العصر المملوكي، والتركي والفارسي.

مسجد ابن طولون _ القاهرة Photography by: Mohammad Hamwi

مسجد ابن طولون _ القاهرة Photography by: Mohammad Hamwi

7- فن تطبيقي موجه للحياة:

 يخرج الفنّ الإسلامي من الحيز الفنّي الشخصي ليدخل إلى الحيز التطبيقي العام تحت شعار: ليس الفن للفن وإنما الفن للحياة.
ولعل ذلك من الأسباب المباشرة التي جعلت شخصية الفنان المسلم ذائبة في أعماله. فهو غالبا (في المراحل الأولى الزخرفية) غير مهتم بإظهار اسمه فوق العمل أو القطعة الفنية الخاصة به (كعادة الفنانين) طالما أن نتائج عمله المبدع تخرج إلى الوجود وتعلن عن نفسها بثقة.. وترتبط ارتباطا دائما بالأمكنة المهمّة التي ظهرت فيها.
وربما هذا ما جعل تلك الأعمال الفنية حاضرة بذاتها رغم خلوها غالبا من أي توقيع شخصي.

كوب زجاجي مزخرف _ دمشق Photography by: Mohammad Hamwi

كوب زجاجي مزخرف _ دمشق Photography by: Mohammad Hamwi

في نهاية المطاف.. يبدو أنه لم تكن هناك حاجة فعلية لبحث الفنان في ذلك الوقت عن هويته الشخصية، فالهمّ الأساسي بالنسبة إليه لم يكن في صراع الهوية وإثبات الذات وإنما كان في تحقيق المنفعة العامة ضمن إحسانه وإتقانه الفني، وهذا ما جعل الأعمال الفنية آنذاك حاضرة بذاتها رغم خلوها غالبا من أي توقيع شخصي.
ملاحظة: بدأ التوقيع الشخصي للفنان يظهر في أعمال الفن الإسلامي ابتداء من المراحل المبكرة من العصور الوسطى تقريبا.. مع فناني الرسوم التوضيحية خاصة كالواسطي وبهزاد وغيرهما ممن أنتج أعمالا تعبيرية رافقت الكتب والمصنفات والمقامات (كتب القصص القصيرة) بعيدا عن الزخرفة والتجريد.

شارع المعز _ القاهرة Photography by: Mohammad Hamwi

شارع المعز _ القاهرة Photography by: Mohammad Hamwi

لقد أخذ الفن الإسلامي دوره التنويري الفني من خلال تلك الخصائص السابقة.. والكثير من الخصائص الأخرى التفصيلية التي تحتاج إلى دراسة وبحث أكاديمي.. وقد أعجب العديد من الفنانين الغربيين بهذا الفن.. وعكف الكثير من الباحثين والمستشرقين على دراسته بعد أن اعتبروه قفزة نوعية في المجال البصري والفكر التجريدي المحترف، الذي يحتاج إلى الإبداع والابتكار بقدر احتياجه إلى الإتقان والاحتراف.

تقول الباحثة والمستشرقة الألمانية آنا ماري شِمِل Annemarie Schimmel في كتابها “أوروبا في مواجهة العالم الإسلامي”:

Professor Annemarie Schimmel

“لقد عمل علماء الرياضيات المعاصرون على فك رموز المعادلات الرياضية التي استخدمها المسلمون في فن الزخارف الرياضية الإسلامية، ووصل العلماء إلى نتائج مذهلة على صعيد البنى والتراكيب الرياضية التي استخدمها الفنانون المسلمون.”
“إنه من الصعب فعلا على المرء أن ينعتق ويتحرر من أسر سحر تلك الزخارف والنقوش الجميلة الرائعة، سواء كانت هندسية أم نباتية، لأنها تهبك إحساسا لا متناهيا بالراحة والسكينة والطمأنينة والقداسة.”

..

بقلم محمد الحموي