بول كلي 

في البدء كان النور..

يُقال أنه: في البدء كانت الكلمة.. أو هكذا كان الأمر لكل الناس، إلا “بول كلي”. ففي بدئه كان النور ثم كان الظلام، ثم اجتمعا، فامتزجا.. وأنتج خليطهما مكتبة من الصور الحية؛ تعكس خيالات الرائي عن ذاته، ولا تنفك تُظهر له في كل مرة أمرًا يجهله، لتنبعث المشاعر والابتهالات، كأن كل الأشياء ترتد إلى أصولها، فلا شيء واضح أو خفي.. بل كلاهما في آن، وكلاهما عواطف المُشاهد وحقيقته.. لا يدرك كنهها إلا هو.

كل خط حكاية

 لنفهم كل هذا علينا أن نعود إلى البدايات تماما.. بول كلي هو فنان سويسري، البعض يقول أنه سويسري ألماني، لكن هذا لن يُشكل فارقًا، فهو فنان عالمي بامتياز. عاش في الفترة ما بين (1879 – 1940) لذا يمكن اعتباره قريبًا من عصرنا، وكل من مرّ بالحرب العالمية الثانية -ولو سريعًا- يبدو قريبًا من عصرنا، لكن سنتجاوز هذا أيضا، فالحرب في كل مكان، ولنقل أن “كلي” أتقن التعبير في لوحاته فصار كل خط حكاية، وكل لون وعلامة وشكل دروبًا متسعة تأخذ بيد المشاهد من بداية اللوحة لنهايتها دون فواصل أو محطات.

دوائر وأسماك.. أم بهلوانات؟

استخدم “بول كلي” الألوان بكثافة ليُعبّر عما يريد.
قد يقول قائل أنه لا يرى في لوحات كلي إلا دوائر وأسماك وورد. لتكن كذلك، بل لتكن بهلوانات لا تعرف سوى المزاح، ولا يهمها من الحياة إلا الهرب من الواقع، أو التخلي عنه، إذا نظرت جيدا في أسفل جانب الصورة الأيسر ستجد هذا البهلوان؛ حارسا لطرفها، ولذا، يرى البعض أيضا أن نموذج “كلي” في التعبير كان طفوليًا وساخرًا، ولكن أليس هذا هو الفن في بعض أفضل حالاته؟ محاولة مستميتة للهروب من الواقع بكل ما فيه.
في محاولة لتبرير موقفنا هذا، سنقول أن “كلي” استخدم النور والظلام في ألوانه بإتقان، ففي ظلام لوحاته، حيث الألوان أكثر قتامة، سنجد أنفسنا محاصرين بـ “دوائر” لا نهاية لها، احتمالات شاسعة للهلاك الفردي، ودروب مظلمة وعنيدة، لكنها تنتهي فجأة كما بدأت. تتوقف عند حدود النور الذي يشعّ جلالًا من اللوحة ذاتها، فنجد نهاية النفق، وعلامة الوصول.
أليست كل طرقنا كهذه اللوحة أو أختها؟ ربما ليس من المقدر أن تكون طرقا بالأساس، ربما أراد لها “كلي” أن تكون علامات واستعارات ودلائل تأخذنا من محطة لأخرى… هذه هي الحياة أيضا، وهذا هو فن “كلي”، أو للدقة: هذا هو ما سيفعله بك النظر إلى لوحاته، ففي مجموعها مزيج من الذات والعالم، الخاص والعام. وكما نعرف، فليس ثمة نهاية للاحتمالات التي تُشكلها هذه الثنائية في وجداننا، ولا للخوف الذي يهبّ منها على عالمنا؛ حيًا وكامنًا في التفاصيل.

حضور يبعث على الطمأنينة.. ولكل الأشياء نهاية

حسنًا، لنمح التعقيد قليلا عن الأمر، علينا أن نحاول التالي: لننظر إلى إحدى لوحات “بول كلي” ونرى ماذا تحاول أن تخبرنا؟ قد يرى إنسان في أسبانيا دروبا للمسيح على طريق التوبة الذي يسلكه العائدون من حيواتهم بذنوب ثقيلة، بينما يرى آخرون ملامح ظهورٍ متجدد للشمس، أو قرية نوبية صغيرة على ضفاف النيل العتيق. طرقا وإشارات وعلامات خفية تأخذ بأيدينا من ثقل أنفسنا والعالم إلى ساحات لا نهائية في لوحة محدودة الأطر. ولأجل هذا نقول:
أن للنور أيضا حضور بهي في أعمال “بول كلي”، حضور يبعث على الطمأنينة، إذ تنتهي عنده حدود الطرق، أو ما تبدو طرقًا، وتتنّفس -كمشاهد- الصعداء في كل مرة لأن شيئا ما يتوقف هاهنا تماما، عند نهاية هذا الخط أو ذاك. لأنك ترى نهاية ما، وإن كانت غير واضحة المعالم أو الاتجاهات. تظهر دون عناء كأنما الشمس تسطع فجأة على العالم وتملأه يقينا بالبديهيات: لكل الأشياء نهاية، نعم.. عليك فقط أن تدقق في التفاصيل لتراها.

فنان.. لا يخشى شيئا

بالكلمات أو الخطوط والألوان، تقول أعمال “بول كلي” أنه لا يخشى شيئا. أو هكذا يتوهم المشاهد، ثمة جرأة لا يتجاوزها إلا من أدرك الحدود والموازين فعرف كيف يتحايل عليها، وقد فعل “كلي” ذلك بصدق وإيمان من يعرف أن رسالته ستصل، فقط لأنه يقولها دون مواربة، ودون تكبد عناء إقناع أحد. فهذه هي حدود العالم من وجهة نظره، وهي مفتوحة على احتمالات عظمى للتأويل، كلٌ حسب طاقته واتساع رؤيته للعالم ولـ “كلي” نفسه.

ورود في زمن الحرب

لكن لماذا نخوض في هذه التفاصيل؟ وكيف لنا أن نشرح عن فنان مثل “بول كلي” دون أحاديث مملة أو كتابات صعبة الفهم؟ يمكننا قول التالي إذن: نعم، نشأ بول كلي الفنان في أسرة فنية زرعت فيه منذ صغره حب التفاصيل والاهتمام بها وجعلها عنصرا له وجود مميز في أعماله الفنية، لكنه أيضا إنسان عاصر بدايات الحرب العالمية وتأثر بها شخصيا، إذ طُرد من ألمانيا وعُرضت أعماله ضمن معرض “الفن المنحط”، وعايش هو المعارك وموت الأصدقاء على الجبهات، ومن ثم حضور الحرب نفسها كعامل ذي ثقل في شخصيته وإنتاجه الفني. هل يُذكرنا هذا بشيء ما؟

هل يُذكرنا هذا بشيء ما؟
لنتذكر أيضا التالي:
إذا كان من شيء نرغب في رؤيته الآن أكثر مما سواه، فهو اليقين، أن ثمة نور إلى جانب الظلام، وأن ثمة متسع دائما للحكايات ولرؤية تفاصيل جديدة ومختلفة في كل مرة نفتح أعيننا على لوحة أخرى لـ “بول كلي”، نفهم من خلالها ما يمكن أن يفعله التصميم والرؤية الفنية إذا ما امتلكتهما موهبة فذة، تُصر على تغيير العالم، ولو بألوان دافئة ودائرة تتعلق في وجدان اللوحة مثل الشمس.. ولو بطاحونة تدور في فنائنا الخاص فقط، وتمنحنا هواء جديدا.. تمنحنا صباحات منعشة، وليل نزق في رقته ودلاله على أفكارنا وفي مدى استيعابنا للجمال.. والذي هو أيضا يكمن عظيما في التفاصيل.

PAUL KLEE

(18 ديسمبر 1879 – 29 يونيو 1940)
فنان ألماني من مواليد سويسرا.
تأثر أسلوبه بالحركات الفنية التعبيرية والتكعيبية والسريالية.
قام هو وزميله الرسام الروسي فاسيلي كاندينسكي بالتدريس في مدرسة باوهاوس للفنون والتصميم والهندسة المعمارية في ألمانيا.
عام 1898 بدأ بدراسة الفن في أكاديمية الفنون الجميلة في ميونيخ.
بعد حصوله على شهادة الفنون الجميلة، سافر إلى إيطاليا.
في عام 1914 قام برحلة مفصلية في حياته الفنية إلى تونس. قام بعدها أيضا بزيارة مصر.
عام 1916 التحق بالتجنيد في الحرب العالمية الأولى.
هاجرت عائلة كلي إلى سويسرا في أواخر عام 1933.
في عام 1935 أصيب كلي بتصلب الجلد وفي عام 1940  توفي وودُفن في سويسرا.

……………………

بقلم: هند عبد الحميد