تخيل أنك تريد أن تشتري بعض الفواكه..
تذهب ببساطة إلى السوق ثم تبدأ بالاختيار، ولكنك تفاجأ بأنك أصلا لا تعرف أنواع الفواكه ولا أسماءها ولا صفاتها.. كيف ستختار إذن وبناء على ماذا!!

هل ستتوقع مكنون هذه الفاكهة أو تلك باللون فقط.. فتقول مثلا هذه حمراء إذن ربما هي حلوة المذاق.. وهذه صفراء أشعر أنها ربما ستكون حامضة؟ أم ستبدأ عملية منظمة من التذوق والسؤال عن الأسماء والصفات وتفنيد كل نوع على حدة كي تتفهم خصائصه وتبني في ذهنك أرشيفا منتظما حول الأسماء والصفات والنكهات تستطيع من خلاله انتقاء ما يعجبك وما تريده بحرية أكبر؟

بالمثل.. عندما تريد زيارة معرض فني ما أو حتى مشاهدة لوحة أو عدد من اللوحات الفنية، فمن الضروري أن تحاول تثقيف نفسك فنيا قبل مطالعة تلك اللوحات، وأن تجمع بعض المعلومات العامة حول المدارس الفنية كي تستطيع تذوق فحوى تلك اللوحات بناء على وعي فكري صحيح، ثم الحكم عليها من خلال عين مدركة وتذوق فني متبصر ولو بالحد الأدنى من الثقافة الفنية اللازمة. لا أن تكون في تلك المعارض كحاطب ليل لا يعي ما يقع بين يديه من حطب!

انطلاقا من تلك المقدمة

لابد لنا كمهتمين بأي حقل من حقول الفنون البصرية أن نمحو أميتنا الواضحة باتجهات الفن أو ما يسمى بالمدارس الفنية الرئيسية وفهم المفاصل الهامة المكونة لها..

ولكن.. ما الذي نعنيه بالتحديد من كلمة: مدارس فنية؟

_المدارس الفنية: هي اتجاهات أو حركات أو مذاهب متتابعة في الفن.. تختلف فيما بينها بالأسلوب والتكنيك المستخدم للتعبير.. وبالموضوعات التي يتم التعبير عنها.. وبالفلسفة الكامنة وراء العمل الفني ككل.

تم تصنيف أو تحديد تلك الاتجاهات في أوروبا ابتداء من عصر النهضة (عصر دافنشي) ما بعد العصور الوسطى.. حيث كانت أول مدرسة مصنفة من تلك المدارس هي المدرسة الكلاسيكية.. التي كانت موجودة أصلا كفن موجه للتعبير عن الموضوعات الدينية أو الموضوعات التي تهم الطبقة البورجوازية آنذاك.

Lady with an Ermine Painting by Leonardo da Vinci Dimensions: 54x39cm 1489–1490 Oil paint

في القرن الثامن عشر ومع التغييرات الفكرية الكبيرة الحاصلة آنذاك بدأت اتجاهات فنية جديدة بالظهور كنتيجة طبيعية وحتمية لكسر قوانين المدرسة الكلاسيكية.. وصارت تتوالد هذه المدارس بشكل متتابع حسب انطلاق الفنانين واتجاهاتهم ومواضيعهم التي يعبرون عنها.. فظهرت الرومانسية والواقعية والانطباعية والتعبيرية والتجريدية.. الخ وصولا لعصرنا الحالي.

إن الإحاطة بتلك المدارس: فهمها والتعمق بفلسفتها ودراسة مبادئها هو أمر أساسي طبعا بالنسبة للرسامين ولا جدال في ذلك.. ولكنه أيضا أمر لا يقل أهمية عند المصورين، مصممي الجرافيك، المدراء الفنيين، المخرجين الفنيين، وأي شخص يعمل بفروع الفنون البصرية والإبداعية.

هناك العديد من المشاكل والصعوبات التي تواجه العاملين في حقول الفنون البصرية التطبيقية في عالمنا العربي.. ولعل الجهل العام بالاتجاهات الفنية ومدارس الفن هو أحد أضخم تلك المشاكل برأيي إن لم يكن هو أضخمها فعلا مع ما يسببه من ضعف ثقافي وتسطيح بالرؤية الفنية وركاكة بالأفكار والمفاهيم.. وإنتاج أعمال تسير دوما عكس الأهمية والاتساع الثقافي والفني. وهو ما نراه جليا بمجمل الإنتاج الإبداعي عامة والتطبيقي خاصة (مع وجود الاستثناءات دوما).

إن استهانة الفنان التطبيقي بهذا الأمر هي استهانة ببناء الفن في مهن تعتمد بأصلها على الركائز الفنية.

ومن يطلع على الحركة الفنية في عالمنا العربي اليوم يدرك بأن هناك جدار فاصل واضح المعالم يقف ما بين الثقافة الفنية.. والتطبيق العملي لها.. إلا إن اعتبرنا أن الفنون البصرية التطبيقية (كالتصميم والتصوير وغيرها) هي عبارة فقط عن حرفة استخدام أدوات البرامج وليس أكثر.. ولا علاقة لها بالرؤية الفنية!!

ولكن إن سلمنا أخيرا بمدى أهمية هذا الأمر وضرورة دراسته.. فالسؤال الأهم بالنسبة لنا هو:

_ إلى أي مدى يجب على الفنان التعمق بتلك المدارس ومبادئها؟ هل يجب أن تكون الدراسة أكاديمية عميقة واسعة طولا وعرضا؟ أم يكفي أن التعرف على العناوين الرئيسية فقط والسلام؟

للإجابة الدقيقة على هذا السؤال لابد لنا أن نفهم المعنى الفعلي للفن التطبيقي.

مهن الفن التطبيقي هي مهن توظف الجانب الفني الجمالي من أجل أهداف تسويقية.. فهي تُخرج الفن من جانبه التعبيري الشخصي وتجعله فنا تطبيقيا في خدمة جوانب الحياة العامة.

وبناء على هذا المعنى فالفنان التطبيقي هو:

أولا فنان: أي لديه كل الإمكانيات الفنية من حس فني موجه ورؤية إبداعية وتعبير فني فعال واحتراف بتنفيذ ما يريد التعبير عنه بطريقة فنية.

وثانيا تطبيقي: أي أنه سيقوم بتسخير واستخدام تلك القدرات الفنية التي لديه من أجل التعبير عن شخص آخر أو جهة أخرى تستفيد من إبداعه في الترويج لفكرة أو سلعة أو أو..

وانطلاقا من هذين الحدين نستطيع تقدير الإجابة على سؤالنا الذي طرحناه سابقا بما يلي:

 يجب أن يحقق الاطلاع على المدارس الفنية أمرين لابد منهما:

أ_ توسيع المدارك الفنية بما يدعم العملية الإبداعية:
فكثرة البحث والاطلاع والمشاهدة الواعية للأنماط الفنية المختلفة والإمكانيات الناجمة عنها، وفهم الفرق بين الاتجاه والآخر والفلسفة القائمة وراء نشوء كل حركة فنية ومشاهدة لوحاتها بطريقة متأنية تساعد على التذوق الجمالي.. كل هذا وغيره عنها سيثري خيال الفنان وسيرفع من وعيه البصري.. وسيشحن فكره ومكامن إبداعه وصولا لإنتاج أفكار وتصميمات جديدة ومختلفة.

ب_ رفع سوية الاختيار الواعي للاتجاه الفني الذي سيبني فيه الفنان التطبيقي عمله الفني المهني، وزيادة مدى تناغم ذلك الاختيار مع موضوعه المهني الذي يعبر عنه ومناسبته للجمهور المستهدف.

لابد لنا في النهاية أن ندرك بما لا يقبل الشك أن الثقافة الفنية عموما والاطلاع على المدارس الفنية وطرق تطبيقها في العمل المهني وتأثيرها على الجمهور المستهدف خصوصا: هو واحد من الأمور أساسية التي يجب على الفنان الواعي أن يضعها في حسبانه خلال عمله، وأن يبدأ من خلالها بتأسيس بنيته الفكرية كمحترف في مجال الفن التطبيقي.. سعيا وراء إغناء رؤيته الفنية وإثراء إدراكه البصري وتوسيع دائرة ثقافته كي يصبح أكثر إبداعا وتميزا في ما يفعل.. وكي يبني بصمته الفنية المتفردة في عالم التعبير الإبداعي.

بقلم: محمد الحموي