هل البحر أكبر؟ أم السماء أكبر؟
((غروب الشمس خلف البحر)) صورة محببة تكاد تكون مكررة في جميع الكاميرات.. تجمع البحر والسماء والشمس في كادر واحد في لحظة غروب.
من منا لم يصور تلك الصورة أو على الأقل حتى فكر بتصويرها! خاصة أنها صورة بسيطة سهلة التكوين عناصرها موزعة سلفا ومفصولة عن بعضها البعض بخطوط واضحة.
ولكن على الرغم من سهولة التقاط تلك الصورة.. إلا أن هناك سؤالا ملحّا من المهم تحديد إجابته وهو: هل من الممكن أن يتغير مدلول الصورة _أو على الأقل أن يزداد الإحساس بمدلولها الموجود_ إن قمنا فقط بتغيير توزيع مساحات العناصر الثلاثة فيها؟
بمعنى آخر.. هل هناك مدلول أو إحساس معين من الممكن الحصول عليه إن جعلنا مساحة السماء كبيرة جدا بالنسبة لمساحة البحر؟
وهل من الممكن أن يختلف ذلك المدلول إن غيرنا توزيع المساحات فعكسناها تماما وكبرنا البحر على حساب السماء؟
لابد لنا إن أردنا الإجابة على تلك التساؤلات أن ندرك أن اختلاف توزيع المساحات في الصورة أو العمل الفني سيؤثر بشكل مباشر على مدلولاتها.. وهو أمر من الهام جدا معرفته وإتقانه بالنسبة للفنان.. لأنه يعتبر من أساسيات الرؤية البصرية.
إذ على الفنان أن يستوعب أهمية حجم المساحة مثلا حول العنصر الأساسي في تكوينه أو على جانب هذا العنصر أو أمامه.. الخ.. وأن يدرك المدلولات المتنوعة الناجمة عن ذلك.. كي يستطيع تكييف تلك المساحة التي صنعها أو تركها بوعي وإرادة مسبقة منه لا بمحض المصادفة.
كي نفهم الموضوع بوعي أكثر يجب أن نعود إلى مثالنا السابق البسيط وهو صورة البحر والشمس :
_ إذا تأملنا مثلا الصورة الأولى (رقم 1) التي تضع البحر في مساحة تعادل تقريبا خمس الصورة وتترك الأخماس الأربعة الباقية للسماء.. سنجد أن الشعور في الصورة هو شعور متجه نحو البراح والتنفس.. السماء كبيرة على حساب الجزء السفلي المحتوي على كمية صغيرة من الماء.. الصورة تتنفس بشكل أكبر، وشعور الراحة يكبر بوجود مساحة واسعة للسماء.. إذ أن وجود السماء غالبا يعمق مفهوم الراحة في الصور إلا إن كانت سماء ملبدة بغيوم ضخمة متراكبة.
1
_ أما الصورة الثانية (رقم 2) وفيها توزع المساحات معاكس تماما للصورة الأولى فتترك خمس الصورة للسماء وأربعة أخماس للبحر. ستظهر هنا انبطاعات الحزن أكثر.. وربما سيزداد الشعور بالاختناق والضيق بوجود تلك المساحة الواسعة من الموج الداكن والمياه التي لا يابسة فيها.. لا بأولها ولا بآخرها.. بل مجرد مساحة ممتدة من أمواج لا تنتهي تزيد الإحساس بتعب الرحلة الممتدة نحو شمس المغيب التي ربما لن نلحق بها بل ستكون قد غربت وغطست في المياه قبل أن نقطع تلك المسافة الكبيرة عوما وربما اختناقا.
2
_ طيب ماذا لو غيرنا كل ذلك وقسمنا الصورة بشكل أكثر هدوءا.. يعني ثلاثة أجزاء بدلا من خمسة؟ هل سيتغير المدلول؟ الصورة الثالثة (رقم 3) فيها تقسيم مشابه لذلك: ثلثا للبحر وثلثين للسماء. شعور البراح فيها ينخفض قليلا عن الصورة رقم واحد بتقليل نسبة السماء.. حيث تصبح الصورة أكثر ثباتا واستقرارا.. وربما منحتنا أيضا بعض الشعور بالروتينية.. إذ أنها تركز على منظر الغروب أكثر من حملها لمدلولات جانبية أخرى كالبراح والحرية أو الاختناق والغرق.
3
…
نعم إذن.. هناك فرق واضح بالمدلول باختلاف توزيع المساحات.. ولو استطعنا إدراك ذلك بطريقة صحيحة تكوينيا سنحصل على أعمال بصرية (صور وتصميمات) أكثر نضجا وأوسع رؤية وأهم تكوينا.
إن توظيف المساحات في العمل الفني مرتبط إلى حدّ كبير بالرسالة التي يريد الفنان عرضها.. وهذا ما يجعلها في نهاية المطاف عنصرا أساسيا من عناصر التكوين.. يجب فهمه والتدرب عليه وعلى إمكانياته المتعددة كي نصل إلى وجهة النظر المثلى في بنائنا للتكوين.
وعندئذ فقط سندرك الإجابة على سؤالنا الذي طرحناه في العنوان.. وستكون الإجابة مبنية على وجهة نظر الفنان المدرك لعمله:
هل السماء أكبر؟ أم البحر أكبر؟
..